بوركينا فاسو ومالي والنيجر.. أزمات إنسانية تغيب عنها العدالة الدولية
وسط تراجع الاتحاد الأوروبي
مشهد عشرات الجثث الملطخة بالدماء والمُلقاة على الأرض في منطقة "سولينزو" غربي بوركينا فاسو، لم يكن سوى صورة مصغرة للواقع المأساوي الذي يعيشه المدنيون في دول الساحل الإفريقي -بوركينا فاسو ومالي والنيجر- في ظل الانقلابات العسكرية، وتصاعد عنف الجماعات الإرهابية، وانتشار السلاح، وتفاقم الفقر المدقع.
ورغم ما تملكه هذه الدول من ثروات طبيعية وموارد معدنية هائلة، فإن شعوبها ترزح تحت وطأة انتهاكات حقوقية متصاعدة، وأزمات إنسانية خانقة، وسط غياب أوروبي ملحوظ، ومناشدات حقوقية لعودة الانخراط الدولي.
وفي تصريحات لـ"جسور بوست"، استبعد خبراء في شؤون النزاعات وحقوق الإنسان والشأن الأوروبي أن تعيد بروكسل حساباتها التاريخية مع هذه الدول، في ظل اشتداد المنافسة من قِبل واشنطن وموسكو.
ثروات مهدرة
تعيش دول الساحل الإفريقي حالة من التدهور المتسارع، على الرغم من غناها بالمعادن والنفط، وتزايد سكانها بشكل كبير، كما تواجه تحديات معقدة تشمل الإرهاب، الصراعات الداخلية، الانقلابات، غياب الأمن الغذائي، شح المياه، الاتجار بالبشر والمخدرات، الكوارث المناخية كالجفاف والفيضانات، وأزمات النزوح القسري.
وعلى مدى عقود، خضعت هذه الدول لنفوذ فرنسي واسع له جذور استعمارية، خصوصاً في بوركينا فاسو ومالي، وقد عززت فرنسا حضورها العسكري هناك، خاصة في عامي 2014 و2018، لكن مع تصاعد الانقلابات في السنوات الأخيرة، طردت الحكومات العسكرية القوات الفرنسية، في ظل صعود النفوذين الروسي والأمريكي.
وفي محاولة لوقف هذا التراجع، أقر الاتحاد الأوروبي في أبريل 2021 "الاستراتيجية الأوروبية للساحل الإفريقي"، نظرًا لما تمثّله المنطقة من أهمية استراتيجية لاحتياجات الطاقة الأوروبية.
مجازر موثّقة
في 15 مارس الماضي، وثّقت وكالة "فرانس برس" انتشار مقاطع فيديو مروعة تُظهر جثث عشرات المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، وهم مقيّدون وملقون على الأرض في وضعيات مأساوية بمنطقة سولينزو.
ونقلت الوكالة عن مصادر محلية أن الضحايا ينتمون بمعظمهم إلى مجتمع "الفولاني"، الذي يتعرض دائمًا لاتهامات بالتعاون مع الجماعات المسلحة في الساحل.
وشهد عام 2025 ارتفاعًا ملحوظًا في حوادث اختطاف الأوروبيين، فقد اختُطفت امرأة نمساوية في النيجر مطلع العام، أعقبها اختطاف إسباني في مالي، كما تعرّض عدد من الفرنسيين للاختطاف في وقت سابق داخل المنطقة، ما يعكس تصاعد حدة التوترات الأمنية.
وفي 15 مايو الجاري، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرًا موسعًا حول تصاعد الانتهاكات في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، مؤكدة وقوع "انتهاكات جسيمة" بحق المدنيين، سواء من قبل الجماعات المسلحة أو القوات الحكومية والمليشيات الموالية لها.
ففي بوركينا فاسو، وثّقت المنظمة مقتل نحو 5600 مدني منذ تولي الجيش السلطة في سبتمبر 2022، بناءً على تقديرات منظمة "أكليد"، وأشارت إلى أن العدد الحقيقي قد يكون أعلى بكثير.
كما أدى النزاع المسلح إلى نزوح أكثر من 2.3 مليون شخص، أي ما يعادل 10 بالمئة من سكان البلاد، بينما يتعرض المدنيون لهجمات ممنهجة من القوات العسكرية وميليشيا "متطوعي الدفاع عن الوطن"، في حملات يُعتقد أنها ذات طابع عرقي، قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
أما في مالي، فواصلت الجماعات المسلحة والفصائل الموالية للجيش، بما في ذلك مقاتلون أجانب، تنفيذ هجمات ضد المدنيين، ما تسبب في نزوح أكثر من 700 ألف شخص.
وتحدث التقرير عن قمع إعلامي واسع، واعتقالات تعسفية للمعارضين والصحفيين، مشيرًا إلى أن الحكومة حظرت فعليًا جميع الأحزاب السياسية في أبريل 2025.
وفي النيجر، لم يكن الوضع أقل قسوة. فقد شنّت السلطات العسكرية منذ انقلاب يوليو 2023 حملة قمعية ضد الإعلام والمعارضة والاحتجاجات السلمية، واحتجزت الرئيس السابق محمد بازوم وزوجته تعسفيًا، إلى جانب الناشط البارز موسى تيانغاري، المعتقل منذ ديسمبر 2024 بتهم متعلقة بالإرهاب.
وحذّرت "هيومن رايتس ووتش" من التداعيات الخطرة لانسحاب الدول الثلاث من مجموعة الإيكواس، مؤكدة أن هذا الانسحاب يحرم المواطنين من حق أساسي يتمثل في اللجوء إلى محكمة العدل التابعة للتكتل الإقليمي للطعن في انتهاكات حقوق الإنسان.
مخرج أوروبي
في ظل تصاعد الانتهاكات الإنسانية وتدهور الأوضاع الأمنية في دول الساحل الإفريقي، دعت منظمة هيومن رايتس ووتش الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة استراتيجيته المعتمدة للمنطقة منذ أبريل 2021، معتبرة أن التطورات الأخيرة، لا سيما الانقلابات العسكرية، تجاوزت بنود تلك الاستراتيجية وأفرغتها من مضمونها.
وأكدت المنظمة أن الاتحاد الأوروبي تراجع دوره في المنطقة بشكل لافت، ولم يعد له تأثير يُذكر، مشيرة إلى أن بعض الدول الأعضاء باتت تفضّل عقد اتفاقيات ثنائية على حساب الموقف الجماعي، ما أضعف الصوت الأوروبي في وجه "القمع والعنف الممنهج" الذي تمارسه السلطات العسكرية الحاكمة في دول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر.
وطالبت المنظمة بروكسل باتخاذ موقف حازم يعيد للاتحاد الأوروبي ثقله التاريخي في المنطقة، داعية إلى مساهمة مباشرة في حماية المدنيين، ودعم المجتمعات المحلية للوصول إلى حياة آمنة وكريمة، كما حثّت على دعم جهود التحقيق الشامل والنزيه في الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها دول الساحل.
انحسار الدور الإقليمي
وفي هذا السياق، قال الحقوقي الإفريقي المتخصص في شؤون النزاعات، صالح عثمان، لـ"جسور بوست" إن الانتهاكات في دول الساحل وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أصبحت المنطقة "بؤرة لانتهاكات حقوق الإنسان في القارة"، نتيجة تداخل النفوذ الإرهابي والعسكري، والتنافس الروسي الأمريكي على النفوذ.
وأشار عثمان إلى أن تراجع دور الاتحاد الإفريقي أسهم في تفاقم الأوضاع، قائلًا: "الاتحاد لم يعد قادرًا على تنفيذ قراراته أو التأثير في الدول التي خرج بعضها عن التكتلات التقليدية وأسس تحالفات جديدة"، مؤكدًا أنه "لا أمل في التغيير دون تحرك دولي فاعل يدعم المدنيين بشكل مباشر".
وأضاف أن غياب سيادة القانون وتوسع ثقافة الإفلات من العقاب يعود إلى سيطرة الأنظمة العسكرية، وانعدام وجود محاكم جنائية إفريقية أو أنظمة قضائية وطنية مستقلة، ما جعل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني تتزايد يومًا بعد يوم.
وحذّر الحقوقي الإفريقي من أن التدهور المتسارع في ظل غياب فعالية الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بسبب تضارب مصالح الدول الخمس دائمة العضوية، يجعل أي تحرّك دولي مؤثر لمعالجة الكارثة في الساحل الإفريقي "أمرًا مستبعدًا للأسف الشديد".
فرصة أخيرة لأوروبا
من جهته، يرى الخبير في الشؤون الأوروبية، الدكتور ديمتري بريجع، أن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى "إعادة صياغة جذرية" لاستراتيجيته في غرب إفريقيا، بدلًا من الاكتفاء بمراجعات روتينية.
وقال بريجع لـ"جسور بوست": "الواقع الأمني والإنساني المتدهور، وهيمنة الأنظمة العسكرية، والانتهاكات المتصاعدة، كلها مؤشرات على فشل المقاربة الأوروبية التي حاولت التوفيق بين الأمن والدبلوماسية دون أولوية واضحة لحماية المدنيين".
وأضاف أن "الاتحاد إذا لم يتحرك الآن، فسيخسر ما تبقى من تأثيره لمصلحة قوى كروسيا والصين، اللتين تتقدمان بثبات، وتنسجان علاقات مباشرة مع العواصم الانقلابية".
وانتقد اعتماد بعض دول الاتحاد على الاتفاقيات الثنائية، معتبرًا أن ذلك "يُضعف الموقف الجماعي الأوروبي، ويجعله هشًا ومجزأً".
وشدد على أن "الاتحاد الأوروبي إذا أراد استعادة مكانته، فعليه أن يكون جزءًا من التغيير، لا مجرد مراقب، عليه دعم المجتمع المدني، وحماية الصحفيين والنشطاء، والضغط لوقف انتهاكات العسكريين، لا غضّ الطرف عنها باسم مكافحة الإرهاب".
واختتم حديثه بالقول: "البقاء في موقع المتفرّج لم يعد خيارًا، فإما مبادرة جديدة وشجاعة، أو انسحاب كامل من معادلة الساحل".
فقدان البوصلة
في المقابل، أبدى بيير لويس ريمون، الأكاديمي الفرنسي المتخصص في الشؤون الأوروبية والدولية، رؤية أكثر تشاؤما، وقال ريمون لـ"جسور بوست": "للأسف، لم تعد منطقة الساحل على جدول الأولويات الأوروبية. معظم الدول تتجه نحو اتفاقيات ثنائية بعيدة عن إطار العمل الجماعي".
وأوضح ريمون أن فرنسا التي كانت مرشحة لقيادة دبلوماسية فاعلة في المنطقة، انسحبت عسكريًا، تاركة فراغًا واضحًا، في حين تحول تركيزها إلى الاتفاقات التجارية، ما يشي بأن أوروبا تفكر في علاقات اقتصادية أكثر من تفكيرها في القضايا الإنسانية أو الأمنية.
ورأى ريمون أن قدرة الاتحاد الأوروبي على تعديل استراتيجيته في الساحل "محدودة للغاية في الوقت الراهن"، لكنه لم يستبعد إمكانية أن تجد الدعوات الأوروبية لحماية المدنيين آذانًا مصغية، "لكن إحداث تغيير حقيقي يحتاج إلى سياسة منظمة وقوية، وليس مجرد مواقف إعلامية أو ردود فعل موسمية".
ووسط واقع إنساني يزداد قتامة في دول الساحل الإفريقي، وتراجع ملحوظ في أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين، تبدو الحاجة إلى تحرك أوروبي عاجل وشامل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، فاستمرار الصمت والتقاعس في مواجهة الانتهاكات الجسيمة يهددان -ليس فقط مستقبل شعوب المنطقة- بل يُضعفان أيضًا مصداقية القيم التي طالما تبناها الاتحاد الأوروبي في مجالات حقوق الإنسان والديمقراطية.